في ذكرى انطلاق جمعية الثقافة العربية بأراضي 48

نحتفل هذا الأسبوع بالذكرى السنوية الـ25 لانطلاق عمل جمعية الثقافة العربية في أراضي 1948. ويأتي الاحتفال كي يجدّد تأكيد عدة أمور أبرزها ضرورة الاحتفاء بالماضي، الذي لا ننظر إليه بوصفه مرحلة طُويت وولّت، بل الرحم الذي ولد منه الحاضر بصورة جديدة، سعيًا للمستقبل الذي لم يحن أوانه. وكذلك في سبيل استعادة حقيقة أن الجمعية أنشئت في ظروف مُحدّدة، وسياق تاريخي شديد الخصوصية، في النصف الثاني من تسعينيات القرن العشرين الفائت، حين هجست مجموعة من المثقفين كان على رأسها المفكر والقائد السياسي عزمي بشارة بأفضل السبل لمقاومة نزعة الأسرلة التي اشتطت تحت وطأة المسار الذي أفضى إلى اتفاق أوسلو. ولا أبالغ حين أقول إن نُذُر ما انطوى عليه هذا الاتفاق من تداعيات خطرة على القضية الفلسطينية عمومًا، كانت جليّة في مسوّغات تأسيس الجمعية، وفي ما ساهم به بشارة من كتابات فكريّة في تلك الفترة.

وكانت جمعية الثقافة العربيّة من المؤسسات الرائدة في الداخل التي التفتت إلى مسألة الهوية واللغة وأولتها أهمية قصوى. وثبت على مر الأعوام أنها مسألة مهمة للغاية إن لم تكن الأهم في سيرورة الفلسطينيين هنا. ولإثبات هذا راقبوا آخر إجراءات السياسة الإسرائيلية، وعلى رأسها "قانون القومية". كما أنها كذلك في كل ما هو مرتبط بالاستثمار في الثقافة، وفي الطلبة الجامعيين من خلال المنحة التي تقدمها وتحمل اسم الراحلة د. روضة بشارة عطا الله، التي تولت إدارة الجمعية ووضعت أهم الأسس لنشاطها اللاحق والمستمر.

وربما يتعيّن أن نشير إلى أنه منذ عام 2000 وما شهدته أراضي 1948 من هبّة شعبية، لوحظ أن ردة الفعل الإسرائيلية على أي حراك للفلسطينيين في الداخل تتسم بمنحيين متوازيين: ترهيبي واحتوائي. ولئن كان المنحى الأول يشكل استمرارًا للسياسة الإسرائيلية الرسمية منذ النكبة، فإن الهدف الرئيس للمنحى الثاني تجسّد ولا يزال إلى الآن في تواتر محاولات مسخ أو تشويه الهوية القومية والوطنية لهؤلاء الفلسطينيين، ولا سيما هوية الأجيال الشابة التي اعتبرت "الأكثر قابلية للتطرّف" من وجهة نظر المؤسستين السياسية والأمنية في إسرائيل. وهي محاولات كانت مقرونة بتطورين: رسوخ الهوية القومية والوطنية للفلسطينيين في الداخل، وبروز مرحلة جديدة من الوعي السياسي فحواها الأساس تحدّي فكرة الدولة اليهودية. وكانت هناك عدة أدوات استهداف للهوية القومية والوطنية لشباب 48، تمثلت إحداها في ما كشفت عنها جمعية الثقافة العربية عبر "مشروع المناهج والهويّة"، الذي أطلقته عام 2010، وقامت من خلاله بمراجعة ودرس ورصد الأخطاء اللّغويّة والمضمونيّة في كتب التدريس للصفوف الابتدائيّة والإعداديّة، بهدف كشف مواطن التشويه التربويّ والثقافيّ في المناهج القائمة، وممارسة الضغط من أجل تصويبها، والعمل الجادّ من أجل خلق البديل الملائم لهويّة المجتمع الفلسطينيّ في الداخل وتطلعاته

وثمة مشروع آخر لا يقل عنه أهمية يتمثل بدفع فكرة الاستقلاليّة الثقافيّة التربويّة لفلسطينيّي 1948 من الناحية العمليّة، في ظل تعرّضهم إلى هجمة شرسة على حقوقهم ومكانتهم القانونيّة، وعلى هويّتهم القوميّة تحت غطاء حملة تشريعيّة وغيرها تهدف إلى تكريس إسرائيل كدولة يهوديّة. وكانت هذه الفكرة قد طُرحت في السابق من طرف مفكرين فلسطينيين وتبنّتها قوى سياسية في الداخل، كما أن جمعيّة الثقافة العربيّة عرضت هذه الفكرة منذ تأسيسها، وظلّت تحاول أن تدفع بها قدمًا، وتستلزم الظروف والأوضاع الحاليّة بذل مزيد من الجهود الرامية إلى تطبيقها.

لا شك في أن هذين المشروعين ومشروعات الجمعية الأخرى تنطوي على الملامح المطلوبة لمشروعنا الثقافي المُشتهى هنا والآن، والذي لم تصل إلى مستواه أي مشروعات أخرى، سواء ما كان معروضًا منها في الماضي، أو ما يُطرح لِمامًا في الحاضر، ويظلّ يعوزه نقاء الحلم وسعة الأفـق ووضوح الرؤيـة. ولعلّ أكثر ما نتطلّع إليه في الوقت الحالي هو العودة إلى هذا المشروع، واستكمال إخراج بنوده إلى حيّز التنفيذ.

 

أنطوان شلحت 

رئيس الهيئة الإدراية للجمعيّة