حاورتها: رشا حلوة
عند مساء يوم الجمعة الماضي، 9 كانون الثّاني 2015، نظّمت جمعيّة الثّقافة العربيّة عرضًا للفيلم الفلسطينيّ "حبيبي بيستناني عند البحر" للمخرجة ميس دروزة، والذي حضره العشرات من الجمهور رغم طقس تلك الليلة البارد.
يروي الفيلم الوثائقيّ الشعريّ قصّة المخرجة، حين قامت لأول مرة برحلة العودة إلى وطنها فلسطين. يقول وصف الفيلم: "غادرت المخرجة واقع عزلتها، ولحقت بحبيبها حسن الذي لم تلتقِ به أبدًا. حسن حوارني، الفنان الفلسطينيّ الذي كشف لها النقاب عن فيلم طوباويّ جميل، في فيلم نسجٌ للخيال والواقع معًا، يطرح تساؤلات عن إمكانية التملص من واقع المكان وعن الحاجة لإيمان بالأحلام".
تقول ميس دروزة في كلمتها عن الفيلم: "يحكي تفاصيل قصّة الحبّ، هذه ليست كتفاصيل أي قصّص حبّ أخرى، فنحن – كفلسطينيين – حُرمنا أبسط الشّعور بحياة طبيعيّة".
تركّز ميس دروزة في أفلامها على موضوعات الوطن، الأمان والبيت، الشعور بالحنين حاضر في أفلام السابقة والجديد والقادمة، تثير تساؤلات حول الإحساس "أن تكون في البيت"، اهتمامها هذا نابع من كونها لاجئة فلسطينيّة أولًا، وثانيًا لكوننا نعيش في عصر فيه بيوتنا مهددة، نراها مهددة يوميًا في ظلّ الحروبات أو من غيرها. وتضيف: "العالم يعيش تحت أنظمة مليئة بالظُلم، فيعيش الإنسان كلّ الوقت بشعور بأنه مُهدد، حتى لو لم يعبّر عنه يوميًا، لكنه موجود."
"حبيبي بيستناني عند البحر" هو فيلم حميميّ وعاطفيّ، كأنه مرآة لصاحبته التي تحكي قصّتها بطريقة سينمائيّة فنّية، التجربة الشخصيّة، التي تُجسّد بقصتها مع والدتها الحاضرة بقوة في الفيلم وفي أي حوار مع المخرجة والمرتبطة بعلاقتها مع فلسطين والبحر، تقول دروزة: "عانت أمي من مرض عضال فترة 10 سنوات، رحلت بعد صراع معه، جمعنا صورها حين كانت بصحة جميلة، وحين رحلت، لاحظت بأن لا من صورة لها عندي خلال فترة مرضها. فحين أغمض عيوني لأتذكرها، أرى الصور القديمة فقط، الجميلة، لأني لا أملك أي صورة جديدة. وهذا مؤلم، لأنها تستحق أن تُرى وهي في فترة مختلفة من حياتها. وهكذا فلسطين، فلسطين تستحق أن نراها بقوتها وبضعفها، وأن نراها بصورتها الجديدة، بحقيقتها اليوم."
خلال حديثك عن الفيلم، قلتِ بأن انتظارك "للحلم"، حلم زيارة فلسطين، كي يتحقق سيؤدي إلى موت شيء ما بداخلك. لماذا خفتِ الإنتظار؟ وهل من أشياء ماتت داخلك، بعد زيارتك الأولى لفلسطين؟
ميس دروزة: "أنا كلاجئة، عاشت خارج فلسطين كلّ عمرها، وأرادت أن تأتي إلى مكان تعرفه فقط من القصّص الجميلة منذ أن كنت طفلة، هذا المكان هو كما الحلم. هنالك خوفًا دائمًا من خسارة القصّص الجميلة في مكانك الممنوعة عنه. والخوف الثاني المرافق لزيارة المكان، هو أن أحبّه وأشعر بالراحة وانعدام الغربة، وبنفس الوقت لا يمكنني العيش فيه، لكوني لاجئة وحاملة لجواز سفر أردني. شعرت أني بلا خيار، يجب أن أواجه حُلمي، أفهمه وأخترع ذاكرة جديدة بيني وبين نفسي، كي أستطيع أن أكمل قصّتي مع المكان. كان من المهم بالنسبة لي أن أعرف قصّتي مع فلسطين، وعند كل زيارة يتجدد الحلم، هذا أجمل ما في تجربتي مع الفيلم وفلسطين، بأن الحلم لا يختفي، إنما يأخذ أشكالاً جديدة، يصبح الحلم مألوفًا أكثر، تُطوري علاقات مع المكان، يصبح لديك ذاكرة حسّية، كلّ هذا ينمي حلمًا جديدًا، يصبح أكثر عمقًا وحقيقةً. شعرت بأن فلسطين تطلب مني أنّ أراها بوضوح، أرى وجعها وعالمها وحزنها وعزلتها، وأن لا أستمر بوضعها في مقام عالٍ ومثالي جدًا، لأنها كما أنها تصرخ ولا أستطيع سماعها. وشعرت أن هذا الحُلم يتطلب مني أن أحضره إلى عصرنا اليوم، عصرنا بكل تناقضاته وبحلوه ومرّه، هذا حلمي، أريده بـ "حلوه ومرّه"."
الفيلم، بكافة تفاصيله، هو عاطفي، حسّاس، بمثابة رحلة شخصية تأخذين المشاهد فيها إلى عالمك، إلى رحلة البحث عن الحبّ في فلسطين. هل من قلق راودك إزاء التوجه العاطفي للفيلم، من قبل المشاهد الفلسطينيّ؟
ميس دروزة: "بداية، لم اخترع طريقة عمل هذا الفيلم، إنما هي موجودة. وأنا أردت أن أصنع عملاً سينمائيًا فنّيًا، يقوم على العاطفة ومن ثم تحمل العاطفة المشاهد إلى مساحة للتفكير والتّساؤلات. شعرت أن هذه طريقتي الخاصة بالعمل وإيماني بماهية العمل السّينمائيّ، وكيفما أحبّه أن يكون. هل كان لدي خوفًا من المشاهد الفلسطيني؟ سؤال صعب، ولكني أستطيع أن أقول بأن هنالك تنظير دائم بالأفلام الني نراها عن المكان، والصورة التي تصلنا عن فلسطين بالأخبار، والتي تضم تفاصيل إخبارية أو واقع لا نعرفه. مشكلتي مع فلسطين ليست بكوني لا أعرف أن الاحتلال موجودًا، وطبعًا حين نصل إليها ننكشف إلى تفاصيل الاحتلال البشعة التي لا من قناة أو خبر يستطيع توثيقها كما هي. أردت أن أخلق قصّة تحكي معنا ومع أي إنسان فاقد لوطنه أو يعيش في وطن مهدد. هذا الإحساس الذي يمكن أن يشعره شخص من أفريقيا أو أمريكا اللاتنية، بأننا جميعنا نبحث عن هذا المكان. أردت أن أُظهر الجانب العاطفي لمعنى وطن، ما هو الوطن؟ ما هي الحريّة؟ أليس الوطن يعيش في عيون والدتك بطريقة معينة؟ بعيون صديق أو صديقة؟ بإحساس ينتابك في شارع ما، هذا هو الوطن. نحن نعيش الحياة بنظريات سياسية، لكني أردت أن أحكي عن هذه الحياة بطريقة أبسط.
طبعا لدي تخوف من عرض فيلم، خاصة لأنه فيلمًا مختلفًا بعض الشيء، فأنا أحكي عن بلدي وأنا لا أعيش فيها، وهذا الإحساس مرافق لفكرة كونك قادمة إلى البلاد وتحكين عنها وتقدمين مقولتك للناس، ولكني آملة دومًا أن يُحدث الفيلم نقاشًا."
الفيلم يتحدث عن زيارتك الأولى لفلسطين، من خلال لقاءاتك مع فلسطينيين، سواء كانوا أصدقاء أو التقيتِ بهم في الفضاء العالم. بالمقابل، لم يكن حضورًا بصريًا للمدن والأماكن، بالعكس، بل كانت فلسطين حاضرة بالناس. لماذا هذا التوجه؟ وهل من مقولة ما تقف من ورائه؟
ميس دروزة: "أنا لا أؤمن بالعالم الماديّ، فأي مكان بالنسبة لي هو عبارة عن تجمع من الناس والقصّص والذّاكرة. هنالك قصّة تلخص ما أقوله الآن، عملت مع شخص على ترجمة الفيلم للّغة الإنجليزيّة، هو من أفغانستان ويعيش في برلين، في الخمسينات من عمره، يعيش في بيت مليء بالصور البيضاء والسّوداء لأفغانستان ولعائلته، وكلّ تفاصيل البيت حميمية أحضرها من بلده، حين دخلت إلى البيت شعرت بأني في عالم آخر، وبالتأكيد لست في برلين. سألته: "هل تشتاق لأفغانستان؟"، أجابني إجابة أحزنتني وبقيت في ذاكرتي وأفكر فيها كموضوع لفيلم جديد، قال: "أفغانستان التي أعرفها، من موسيقى وكتابات وقصائد وأصدقاء وحارات وسينما وروائح، كلّها اختفت، كل ما أعرفه عن المكان هذا، اختفى، فإلى ماذا سأشتاق؟"، في فلسطين الأمر مختلف، في زياراتي إليها أقضي وقتًا في بيوت أصحابي، وأمارس الحياة اليوميّة فيها، أشرب فنجان قهوة مع صديقة. سامر من القدس، أحد أبطال الفيلم يقول أنّ الحلم لا يختفي، لأن عمره أطول من عمر صاحبه. صحيح لا يختفي، لكن علينا أن نعمل لتحقيقه."
يبدأ الفيلم مع اللاجئين في سوريا، مرورًا بالضفة الغربية، من ثم القدس، الداخل الفلسطيني ويُختتم في عكّا. لماذا أردت سرد حكايتك في هذا المسار؟
ميس دروزة: "هذا المسار رسمته أنا، لكونه يبدأ من الخارج وينتهي عند البحر. هنالك سببًا سياسيًّا، مفاده أن فلسطين هي اللاجئ الذي يعيش خارجها، والمنسي من قبل القادة السياسيين، وفلسطين كلّ أماكن تجمع الفلسطينيين ولغاية بحر عكّا. فلسطين هي كلّ هذا، وليست فقط الضفة الغربية أو غزّة. الأماكن لم تكن مهمة، قصّص الناس مهمة، برغم التفاصيل المختلفة لحياة الفلسطينيين أينما كانوا، ورغم مرور السّنين وسياسة "فرق تسّد" التي يعمل عليها الاحتلال والعنصرية والحواجز والحرمان، بالنهاية الصوت هو نفسه، بين اليرموك وبين الناصرة، لا يختلف الصوت."