شارك عدد كبير من المعماريّين والمهتمّين بالعمارة في القاهرة في دورة " الهوية والعمارة" التي استمرت لمدّة أسبوع (29 آذار- 5 نيسان). تأتي هذه الدورة ضمن مشروع الهوية والعمارة في جمعية الثقافة العربية- الناصرة، وهذا هو اللقاء الثالث للمعماريّين وللمهتمّين بالعمارة في البلاد، فقد سبق هذا اللقاء لقاءان آخران، تضمّن الأوّل يوما دراسيّا حول موضوعة العمارة والهوية بتاريخ 11/11/2006، وتضمن اللقاء الثاني ثلاثة أيام دراسية في العاصمة الأردنية عمّان (15-17 كانون الأوّل 2006). شمل برنامج الدورة لقاءات مع معماريّين مصريّين مشهورين، ومثقفين، وفنّانين وموسيقيّين، وجولات في مواقع معماريّة في أنحاء القاهرة والإسكندرية برفقة محاضرين مختصّين بالعمارة ومرشدين، وحلقات نقاش وتلخيص، وأمسيات ثقافية وفنية.اتسم برنامج الدورة بغناه البالغ، وعلى الأرجح أن معماريّي البلاد لم يختبروا دورة مثيلة بغناها وعمقها وشموليتها. فقد توقّفت عند الموسيقى، والتاريخ، والأدب، والسياسة، والآثار، والمجتمع، والدين، وعلاقة كل ذلك بالعمارة. وتجدر الإشارة إلى أن النقاشات التي دارت بين المشاركين أنفسهم في أعقاب انكشافهم على مختلف هذه المواضيع، وبينهم وبين المحاضرين والموسيقيّين والأدباء وعامّة المصريّين، قد أغنت البرنامج، وما من شك في أنها تركت آثارًا عميقة في نفوس المشاركين.
كانت المحطّة الأولى للمشاركين في البلدة القديمة في القاهرة المليئة بالآثار التاريخية القديمة، حيث الكنيسة المعلّقة وجامع عمرو بن العاص، ومعبد بن عزرا اليهودي، وكنيسة القديس مينا بجوار حصن بابليون، وكنيسة الشهيد مرقوريوس (أبو سيفين)، وكنائس عديدة أخرى. وسميت الكنيسة بالمعلقة لأنها بنيت على برجين من الأبراج القديمة للحصن الروماني (حصن بابليون)، ذلك الذي كان قد بناه الإمبراطور تراجان في القرن الثاني الميلادي، و تعتبر الكنيسة المعلقة أقدم الكنائس التي لا تزال باقية في مصر. وتذهب بعض الروايات إلى أن الكنيسة بنيت على أنقاض مكان احتمت فيه العائلة المقدّسة (السيدة مريم العذراء، المسيح الطفل، والقديس يوسف النجار) أثناء السنوات الثلاث التي قضتها في مصر، استنادًا إلى الكتاب المقدّس، هروبًا من هيرود حاكم فلسطين الذي كان قد أمر بقتل الأطفال تخوفًا من نبوءة وردته.
وبعدها قام المشاركون بزيارة الشاعر الفلسطيني هارون هاشم رشيد، أحد أهم شعراء النكبة، ويطلق عليه أيضًا " شاعر القرار 194" لغزارة شعره حول اللاجئين ومأساتهم وحالة اللجوء.
كما واستمع المشاركون إلى محاضرة حول ضرورة عملية توثيق العمارة للبروفيسور سهير زكي حوّاس، المتخصّصة في فن العمارة في جامعة القاهرة، والتي بادرت إلى عملها الجبّار لتوثيق العمارة في القاهرة الخديوية، وأكّدت المحاضرة على أن الوعي التاريخي الحديث المنسلخ أصلاً عن الماضي وتراث السلف لا يمكن له أن يساهم في العمل الثقافي ما دام يقوم بتقليد الآخر أو تقليد التراث بصورة عمياء من دون فهم التفاصيل والدلالات المعمارية. فالقيمة التراثية للعمارة في التعرّف على وعي وثقافة السلف والاستفادة منها لبناء المستقبل.
وفي مساء اليوم الأول زار المشاركون دار الأوبرا المصرية في القاهرة، حيث عرض باليه "زوربا" الفاتن، الذي يجمع بين رواية "زوربا" للكاتب اليوناني الشهير نيكوس كازانتزاكيس (1957-1883)، وعمل الموسيقي اليوناني ميكيس ثيودوراكيس، وبين أداء فرقة باليه أوبرا القاهرة الرائع باشتراك أوركسترا أوبرا القاهرة الساحرة بقيادة الموسيقار إيفان فيليف. وقام رئيس دار الأوبرا المصرية السيّد عبد المنعم كامل بإخراج العرض الذي استمر ستة أيام. وتجدر الإشارة إلى أن رواية (زوربا) لكازانتزاكيس تعتبر من كلاسيكيات الأدب العالمي واشتهرت بصورة خاصّة بعد أن أخرجها مايكل كاكويانيس في العام 1964 للسينما في فيلم من بطولة أنتوني كوين ووضع موسيقاه ثيودوراكيس الذي كرّمه مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في العام 2004.
كان المتحف المصري في القاهرة المحطّة الأولى في اليوم الثاني للدورة، حيث انكشف المشاركون على بعض من الكنوز الأثرية لمصر القديمة. يعتبر مبنى المتحف المصري في القاهرة من أقدم المباني في العالم من حيث استخدامه للخرسانة المسلّحة، وبني على الطراز النيو كلاسيكي في العام 1902، ويحتوي على أكبر مجموعة من الآثار المصرية القديمة، ويقع المتحف المصري في ميدان التحرير بقلب القاهرة. يحتوي معرض المتحف على 136 ألف أثر فرعوني، بالإضافة إلى مئات الآلاف من الآثار الموجودة في مخازنه، والتي سوف تنقل إلى المتحف المصري الجديد الذي بُدئ العمل عليه ويقع غرب القاهرة بالقرب من أهرام الجيزة.
التقى المشاركون مع الدكتور بهاء الدين حافظ بكري، وهو عميد كليّة العمارة في جامعة القاهرة، ورئيس حزب الخضر في مصر، ومعماري متخصّص بالعمارة البيئية.
يقوم الدكتور بهاء الدين مع بعض زملائه في مصر بتطوير ما يطلق عليه اسم "عمارة الطاقة"، وهو صنف جديد من العمارة، تطوّر في العقدين الأخيرين في العالم، يقوم على فرضية أنه يتعيّن على العمارة أن تنسجم مع بيئتها والطبيعة المحيطة بها، والأهم من ذلك هو أن المواد المصنوعة منها والأشكال الهندسية المكّونة لها إنما تترك آثارًا بالغة في الإنسان المقيم بها، وتغذّيه بالطاقة أو تسلب له طاقته. لهذا السبب، يعتقد الدكتور بهاء الدين أن هنالك حاجة إلى دراسة موروثنا الحضاري بغية التعلّم منه، بعد أن توقّف الغرب عند مقولة العقل والجسد (النظريّات الماديّة) وأهمل الجوانب الروحانيّة للإنسان، ودعا إلى الانتقال من الفهم الوظيفي إلى الفهم البيئي في العلوم الهندسيّة بعامّة، والعمارة بصورة خاصّة، وذلك جرّاء ظل سواد الثقافة النفعيّة في عالمنا.
وقد أشار الدكتور بهاء الدين في معرض كلمته أننا كعرب يمكننا طرح بديل آخر للعالم اليوم يجمع بين المادّة وما وراء المادّة، أي الدمج بين الروح والجسد، وقد أطلق عليها اسم "عمارة الإيمان".
قام المشاركون بزيارة إلى بيت الشاعر " الصعلوك" أحمد فؤاد نجم، الذي استضافهم على سطح بيته الواقع في الحي الشعبي الجديد "حي الزلزال". وتجدر الإشارة إلى أن سطح بيت الشاعر مليء بالأبيات الشعرية على جدران العليّة الموجودة على السطح، وتستقبل بعض البيوت الزوّار بالعبارة التالية: "المجدُ للمجانينْ في هذا العالم البليد"، وأضاف: "الشعر حصان، رغم القضبان، بيلف العالم، كيف يشاء"، وكذلك: "الزمن شاب وانتي شابة، هو رايح وانتي جاية، مر الكلام زي الحسام، يقطع مكان ما يمر".
بعد ذلك قام المشاركون بزيارة "بيت العود" الواقع في منطقة الأزهر وخان الخليلي حيث استضافهم الموسيقار العراقي نصير شمّه ، الذي عرض موجزا عن مسيرته الفنيّة وتحقيقه لمخطوطة الفارابي حول طريقة صناعة العود المثمّن، حيث أضاف وترين للعود القائم، وقدّم عزفًا منفردًا رائعًا لمعزوفته من آشور إلى إشبيلية باستعماله أصابعه من دون الريشة، والتي استوحاها من إحدى المنحوتات الآشورية القديمة التي تصوّر أحد عازفي العود يعزف بأصابعه لا بالريشة .
كذلك قدّم أمام المشاركين مقطوعته الموسيقيّة "قصّة حب شرقية" وقصّ عليهم حكاية تأليفه لموسيقى مقطوعة "العامرية" حيث أمضى أسبوعًا كاملاً بعد الهجوم الصاروخي للقوّات الأمريكيّة على ملجأ العامريّة في بغداد حتّى أنهى المقطوعة البديعة. تتألّف هذه المقطوعة من ثلاثة مشاهد، يبدؤها بتجسيد الحياة الطبيعية اليومية للأطفال داخل الملجأ، حيث يلهون ويلعبون، وينتقل للمشهد الثاني حيث القصف المروّع الذي يبدعه بأصابعه على عوده الذي يصرخ ويرجف من دوي النار والدخان وصراخ الأطفال والموت يخترق جسدهم، ثم يتوقّف القصف في المشهد الثالث بعدما ترك أجسادًا محروقة وأرواحًا تعانق الخلود. وأشار الموسيقار إلى العلاقة الوثيقة بين العمارة والموسيقى بوصف الموسيقى نبض حياة الناس والعمارة تجسيدًا شكليًّا لهذا النبض. وتجدر الإشارة إلى أن نصير شمّه كان محكومًا عليه بالإعدام في عهد صدّام حسين، إلا أنه بفعل ضغوط بالغة على ذلك النظام أعفي عنه. ومنذ سنين طويلة يقوم نصير شمّه باستغلال مكانته لتقديم الدعم والعلاج لأطفال العراق.
أما في صباح اليوم الثالث فقد زار المشاركون الأهرام في منطقة سقارة ووقفوا عند عظمة هذه المنشآت والمنظومة المعرفية والثقافية التي تقوم عليها. وفي طريق العودة توقّف المشاركون عند إحدى مدارس صناعة السجّاد وأطلعهم أحد المدرّسين هناك على كيفية صناعة السجّاد والمواد المستعملة في صناعتها. وبعد ذلك حلّ المشاركون ضيوفًا على المعماري المشهور الدكتور عبد الحليم إبراهيم عبد الحليم في مكتبه، حيث عرض أمامهم أعماله المعمارية وتوقّف عند المنظومة المعرفية وصلتها بالتراث العربي والإسلامي والموروث القديم وطموحها المستقبلي.
كذلك تطرّق الدكتور عبد الحليم إلى علاقة التطوّرات السياسية في منطقة الشرق الأوسط بالعمارة ووظيفتها في الحياة العامّة في البلدان العربية. وجاء في معرض حديثه أن حرب 1967 قد زعزعت أسس الوعي المعماري في مصر حيث حاول المعماريّون الانفلات من وقع نكسة الحرب في نفوسهم، مّا أدّى إلى تغيير الوعي المعماري والتوجّه إلى مفاهيم معمارية أخرى وتدريس موضوع العمارة بصورة أخرى بعيدة بعض الشيء عن المفاهيم النفعية والوظيفية التي كانت سائدة في حينه استبدالها بنظرة أخرى تعتمد بعض الشيء على الموروث الحضاري والتطلّع المستقبلي في آن معًا.
أما في اليوم الرابع فقد عقد نقاش مطوّل للمشاركين بغية التوقّف عند الأهداف المبتغاة من إقامة "منتدى المعماريّين" في البلاد والتوقّف مطوّلاً وغنيًا عند المفاهيم المعمارية التي يتعيّن الابتعاد عنها، وأخرى التي من المفضّل اتباعها بغية الوصول إلى عمارة تقوم على منظومة معرفية وثقافية ذات بعد جمالي في البلاد.
بعد ذلك توجّه المشاركون إلى دار الأوبرا المصرية في القاهرة حيث شاهدوا العرض الموسيقي البديع للفنّان إيمان البحر درويش احتفالاً بذكرى السيد درويش. وقد قدّم الفنّان العديد من أغاني جدّه السيد درويش وأخرى للشيخ إمام وأخرى له.
أما في اليوم الخامس فقد سافر المشاركون إلى الإسكندرية حيث زاروا مكتبتها الحديثة، واستمعوا إلى شرح واف من المعماري مصطفى مكّي الذي شارك في تنفيذ المشروع. وتجدر الإشارة إلى أن نقاشًا ثريّا دار بين المشاركين بشأن معمارية مكتبة الإسكندرية ودلالاتها المعمارية، وقد استكمل هذا النقاش في اليوم التالي مع المهندس المدني الدكتور ممدوح حمزة في مقر جامعة الدول العربية، الذي عرض تفاصيل تنفيذ مشروع بناء المكتبة. كذلك فقد زار المشاركون حديقة الأزهر الحديثة في الإسكندرية التي يقع فيها قصر الملك فاروق الأوّل.
استضافت الجامعة العربية، ولأوّل مرّة في تاريخها وفدًا من البلاد وكان السيّد محمّد صبيح، مندوب فلسطين الدائم لدي الجامعة العربية والأمين عام المساعد، متحمّسًا جدًّا لهذا اللقاء ورحّب بالوفد ووعد بالسعي لدى جامعة الدول العربية لاحتضان فلسطينيّي 1948 والعمل على دفع مبادرات لاستقبال طلاّب فلسطينيّين من البلاد لاستكمال تعليمهم العالي في الجامعات في بعض الدول العربية. كما ووعد بتوثيق العلاقة الثقافية مع المجتمع الفلسطيني في البلاد والعمل لدى الأمين العام السيّد عمرو موسى والدفع بهذا الاتجاه.
رافق الدكتور علي جبر، المحاضر في كليّة العمارة في جامعة القاهرة، المشاركين في اليوم السادس في زيارتهم لجامع السلطان حسن المملوكي ومسجد الرفاعي المتقاربين والواقعين في منطقة القلعة في ميدا ن صلاح الدين.
وقد كانت هذه الزيارة غنية بصورة خاصّة بفعل الشرح الوافي والدقيق للدكتور علي الذي قارن ما بين الجامع وبين مسجد الرفاعي. وتجدر الإشارة إلى أن جامع السلطان حسن- الملك الناصر أبو المحاسن حسن ابن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون (1334-1361)، وهو أحد المماليك الذين حكموا مصر- يعتبر من أجمل الجوامع الإسلامية قاطبة، صمّمه المعماري محمد بن بليك المحسني، وينظر إليه العديدون بأنه مدرسة في فن العمارة، وذلك لدقّة تصميمه ودلالات كل أشكاله ومقاييسه، فكل تفصيل من تفاصيله دلالة دينية وروحانية. ولكن قصّة بنائه تعيسة جدًّا حيث سعى هذا الحاكم كغيره من الحكّام القدماء بعامّة والمماليك بخاصّة إلى أن يخلّدوا ذكرهم بين الناس. وحدث أن وقعت حوادث كثيرة في عهد السلطان حسن أشهرها وباء الطاعون الذي حصد أرواح مئات الآلاف من المصريّين، وتفشّي المجاعة، وجفاف الأرض، كما وسقطت إحدى المآذن على دار الأيتام المجاور للجامع وقتل نحو مائتي طفل.
أمّا مسجد الرفاعي فقد طالبت ببنائه خوشيار هانم أم الخديوي إسماعيل، وبني على يد معماري إيطالي وبتفاصيل أوروبيّة إيطالية، ولكنه حاول تقليد الجامع المقابل له (جامع السلطان حسن)، إلا أن هذا التقليد كان شكليًّا من دون فهم التفاصيل المعمارية القائمة في جامع السلطان حسن، الأمر الذي يضعه في مكان وضيع وسطحي جدًّا، حيث تمّ التركيز على القشور الزخرفية التي لا تحمل أية دلالات معمارية تذكر.