المدينة الفلسطينية الغائبة في "حديث الأربعاء" في الناصرة

نظّمت جمعيّة الثّقافة العربيّة يوم الأربعاء 3/6/2019 في مقهى "المها" في مدينة الناصرة، ندوتها الثانية ضمن برنامج ندوات "حديث الأربعاء" وكانت بعنوان "المدينة الفلسطينيّة الغائبة" بمشاركة الأكاديمية نسرين مزاوي، والكاتب إياد برغوثي، والباحث رامي صايغ، وأدارت الندوة أمل عون.


ناقشت الندوة المدينة الفلسطينيّة قبل النكبة وفي أيامنا المعاصرة انطلاقًا من فقدان الفلسطينيين مدينتهم في النكبة كما فقدت المدينة الفلسطينيّة نفسها في النكبة. وكانت مدن فلسطين في أوائل القرن العشرين تشهد نهضة ثقافيّة وعمرانيّة ملفتة، انعكست بالأساس في مدن يافا والقدس وحيفا. بعد عام 1948 وقعت هذه المدن ضمن مخططات البناء والاستيطان الإسرائيلي وأُقصي الفلسطيني منها وحوصر في أحياء فقر. وتشهد بعض مدن فلسطين التاريخيّة اليوم حراكًا ثقافيًا ملفتًا، بينما تواجه مدن أخرى ظاهرة ازدياد في أعداد السكان لكن من دون تحوّلها إلى مدن بالمفهوم الحضري/ المدني.



كرة القدم في فلسطين قبل النكبة


قدّم رامي صايغ المداخلة الأولى التي كانت عن "نوادي كرة القدم في فلسطين قبل النكبة – يافا نموذجًا" مستعرضًا تأسيس النوادي الرياضيّة بشكل عام وكرة القدم بشكل خاص في فلسطين، إبان الانتداب البريطانيّ، وبالتحديد في مطلع سنوات العشرين من القرن العشرين الماضي، ولوحظت هذه الظاهرة في المدن الرئيسيّة مثل القدس وغزّة ويافا وحيفا وعكّا، وتطوّر هذا الفرع عبر السنوات ليصل إلى تنظيم وتأسيس منتخب فلسطين الوطني الذي شارك في تصفيات كأس العالم لعام 1930 وخسر أمام منتخب مصر في المباراتين المصيريّتين.


وأشار صايغ إلى أن مدينة يافا قبل النكبة، وبالتحديد زمن الانتداب البريطانيّ، كانت "العاصمة" الثقافيّة لفلسطين، إذ شهدت المدينة ازدهارًا باهرًا في هذا المجال، تماشيًا مع الازدهار الاقتصادي الذي عاد بالفائدة على أهالي يافا وقراها وحتى على المهاجرين من بلاد الشام ومصر وشرق الأردن الذين قدموا للعمل في مجال زراعة الحمضيات وبشكل خاص زراعة برتقال يافا المشهور عالميًا آنذاك.



واعتبر صايغ أن هذه الصحوة الاقتصاديّة أدت إلى الاستقرار والرفاهيّة في المجتمع اليافاوي الذي استغل ساعات الفراغ لبناء نشاطات رياضيّة بشكل عام وكروية بشكل خاص، فتأسس نادي "الأرثوذكسي يافا" ونادي "إسلامي يافا" عام 1926، وكان لكل ناد ملعب خاص به، الأمر غير المفهوم ضمنًا في تلك الأيام! فملعب نادي الأرثوذكسي يافا كان على أرض الوقف الأرثوذكسي بجانب الكنيسة، أمّا نادي إسلامي يافا فاستعمل الملعب البلدي "البصّة" الذي تحول اسمه إلى "بلومفيلد" بعد النكبة.


وتحدّث صايغ عن تأسيس أول اتحاد رياضي في فلسطين عام 1944 وكان يشرف على جميع الألعاب وكان اسمه الاتحاد الرياضي الفلسطيني ومقره مدينة يافا، وكانت تدير هذا الاتحاد لجنة مركزيّة مؤلّفة من تسع أعضاء تنتخبهم لجان المناطق الست في فلسطين كل عامين مرة. واللجان كانت من غزة ونابلس والجليل وكل لجنة منها انتخبت مندوبا واحداً. أمّا لجان يافا وحيفا والقدس فانتخبت كل منها مندوبين إثنين، وذلك لتعدّد الأندية وكثرة النشاطات الرياضيّة في هذه المدن الثلاث.


الحكاية اليومية قبل النكبة


المداخلة الثانية كانت لإيّاد برغوثي بعنوان "استحضار المدينة الغائبة أدبيًا – عكا نموذجًا" وطرح من خلالها أسئلة حول كيفية كتابة حكاية عن مدينة منكوبة؟ وكيف يمكن تجميع القطع المتناثرة لتفاصيل الحياة في المدينة المكسّرة؟ وما هي مصادر معرفة "الحقيقة"؟ وأين هي حدود الخيال في مسار الاستعادة المتخيلة؟



واستعرض برغوثي في مداخلته حكايات من كتابته لروايته "بردقانة" التي تحكي حكاية جرت أحداثها في مدينة عكا قبل النكبة. وقرأ برغوثي على المستمعين مجموعة من القصص التي تعكس الحياة الاجتماعيّة واليوميّة للفلسطينيين في عكا قبل النكبة من كتاب "بلدي وأهلي وأنا" للكاتب ذو النون الجراح.


الناصرة اليوم وتحولات الحيز المديني


وفي المداخلة الأخيرة تحت عنوان "تحولات ثقافية في الحيّز المديني للناصرة"، تحدثت نسرين مزاوي عن خصائص المدن ومفهوم النكبة الاجتماعي الثقافي وأبعاده على المدينة الفلسطينية، واستعرضت الحالات الأساسية للمدن الفلسطينية في الداخل، ومنها التي استعمرت بالكامل وتلك التي تحولت إلى ما يُسمى "مدن مختلطة" أو تلك التي نالت اللقب الإداري "مدينة" بسبب عدد سكانها. وتوسعت في حالة مدينة الناصرة الخاصة - المدينة الفلسطينية الباقية - وفي التحولات الثقافية في الحيز المديني التي تنعكس في المبنى الاجتماعي والمعماري لأحيائها.


وقالت مزاوي إنه حتى العام 1948 كانت الناصرة أصغر المدن الفلسطينية وأقلها أهمية، وخلال فترة قصيرة جدًا لا تزيد عن بضعة أشهر ضاعفت الناصرة عدد سكانها وتحولت إلى مدينة فلسطينية وحيدة منقطعة عن شبكة المدن الفلسطينية والعربية المحيطة بها وحظيت بلقب "عاصمة الفلسطينيين في الداخل".


وأضافت "كمدينة منكوبة تطورت الناصرة على مدار سبعة عقود في دولة قامت على أنقاض مجتمعها – على نكبة المجتمع الفلسطيني وعلى تدمير كل ما هو فلسطيني بما في ذلك مدنه ومراكزه الحضرية. ومسار التحضر Urbanization الذي شهدته الناصرة كباقي المدن الفلسطينية في النصف الأول من القرن العشرين، تحول ابتداء من العام 1948 إلى مسار معاكس يدحض كل المقومات الحضرية للناصرة ويسعى إلى تحويلها إلى تجمع سكاني بحت. وقد فُرِضَ هذا المسار على الناصرة بداية من خلال عمليات مصادرة أراض واسعة في ظل حكم عسكري استمر ما يقارب العشرين عامًا، تم خلالها إقامة مدينة إسرائيلية مجاورة لتستبدل الناصرة كمركز حضري. واستمر هذا المسار بعمليات تفريغ الناصرة من مؤسساتها الرسمية ونقلها الى المدينة المجاورة وبعرقلة عمليات التخطيط وتوجيه البناء والنمو السكاني فيها الى داخل المدينة.



وأكدت مزاوي أنه في النصف الثاني من سنوات التسعين من القرن الماضي التحقت الناصرة كباقي مدن العالم في ركب النيوليبرالية، وشمل هذا تحولات جذرية في الحياة اليومية لسكان المدينة وفي نمط السكن والبناء فيها وفي التركيبة الاجتماعية والاقتصادية لأحيائها التي تحولت من أحياء طائفية وعائلية إلى أحياء طبقية. وينعكس هذا التحول أيضًا في الحياة الثقافية العامة التي شهدت تقلبات وفقًا للظروف السياسية. ورأت أن حالة "المدنيين بدون مدينة" تنطبق على سكان الناصرة كما على فلسطينيي الداخل عامة، الذين يفتقدون الحق في المدينة كحق أساسي من حقوقهم الجماعية، ويفتقرون إلى الحق في الانتماء كحق أساسي من حقوقهم الإنسانية.


استنكار الملاحقة السياسية


يذكر أن الصحافي ربيع عيد، منسق ندوات "حديث الأربعاء" والمركز الإعلامي في جمعية الثقافة العربية، افتتح الندوة باستنكار حملة الملاحقة السياسية بحق المسؤولة عن قسم الثقافة العربية في وزارة الثقافة لبنى زعبي، التي تؤججها وزيرة الثقافة الإسرائيلية ميري ريغف. وأكد تضامن الجمعية مع حقّ ضحية هذه الحملة في التعبير عن رأيها وعن مواقفها الوطنية. وأكد أن ريغف تحاول أن تطبّق ميدانيًا "قانون الولاء في الثقافة" سيئ الصيت بعد أن فشلت في إقراره نهائيًا ضمن الكنيست.