في طريقنا إلى الخليل شرح لنا الأستاذ فوزي ناصر قصة الأماكن التي مررنا بها، وعن القرى التي هجّرت في وادي عارة، قرية وادي عارة ومكانها الآن كيبوتس بركائى، ورأينا البيت الوحيد الباقي من مزرعة عبد الهادي، وعن درب البحر والعيون وقرية فرعون وفرديسيا والطيبة ومقام الشيخ مشرّف والحفريات التي كشفت عن كنيسة بيزنطية، عن وادي العيون، وادي إسكندر، وعن الطيرة وازدياد عدد سكانها بسبب توطين المتعاونين والعملاء، عن معركة قلنسوة ومقبرة الأمويين وعن قلقيلية ووجود فتحة واحدة على كل محيطها وكأنها سجن واحد كبير له بوابة واحدة.
وحدّثنا عن لجنة التسميات الصهيونية التي قامت سنة 1919 – 1920 ووضعت برنامج أسماء يهوديّة، ثم مررنا بجانب قلعة مجدل الصادق أو مجدل يافا ومقابلها قلعة رأس العين وقرية قولا وما تبقى منها كالجامع والعيون وبقايا قلعة قديمة، ثم لفت نظرنا إلى أرض النـزلة والتي كانت تعتبر أخصب أرض في فلسطين، ثم مررنا أمام طيرة دندن قضاء الرملة التي لم يبق من هذا القضاء أيّ قرية عربيّة من أصل 58 قرية هجّر أهلها عام 1948.
وصلنا إلى الخليل، وكان في استقبالنا مجموعة من المعماريين المخلصين الغيورين على البلد من مركز إعمار الخليل في البلدة القديمة. شرح لنا المهندس وليد أبو الحلاوة على الحاسوب والشاشة عن التركيبة الهيكلية للخليل عن H1, H2 حيث تعتبر H1 الخليل الفلسطينية و H2 الخليل الفلسطينية تحت السيطرة الإسرائيلية.
هنالك الكثير من الإنحياز بجذوره الوجدانية والحسية والسياسية والوطنية والأخلاقية، إنحياز للحفاظ على الموجود، على الإطار، على البلد.
تحويل البلد إلى ثكنة ومستوطنة وهذا القطع والبتر الخانق والقاتل وغير الإنساني، هذا الإختلاف الفظيع بين ما كان قبل 67 واليوم، وبدل المراقبة من بعيد قررت مجموعة المراكز التي زرناها الإستمرار على مستوى المعمار والحفاظ على الهوية الثقافية والتاريخية والذاكرة، وتجذير العمارة في بيئتها بالإتكال على العناصر المحلية لتحافظ البلدات القديمة على خصوصية النمط المعماري، والذي يتلاءم مع المعطيات المناخية والجغرافية والبيئية في إطار المكان والحياة الإجتماعية ومقاومة الأوضاع والحالة الأمنية التي فرضت عليها.
يتعامل الخبراء مع موضوعة العمارة كحالة دفاعية عن المكان الذي يحوي الذاكرة والناس، وأحياناً تراهم وكأنهم في موقع الهجوم والمقاومة للحفاظ على بعض عناصر الهوية.
والقضية في هذا الوطن المبتور هي ليست تقنيات فقط أو الإنترنت أو التكنولوجيا الحديثة على أهميتها، وليس المشروع ثقافي بالمطلق، هو مشروع إقتصادي ثقافي إجتماعي سياسي له علاقة بحياة الفرد الكريمة، له علاقة بوقف الهجرة والنزوح، له علاقة بمحاولة إعمار البلد والحفاظ على خصوصيته.
وعن وجود خمس مستوطنات في الخليل، ولكي يستطيع أن يتواصل أهل المستوطنات الخمس كان يجب تقطيع أوصال الفلسطينيين في البلدة القديمة، التزم أهلنا بيوتهم ينظرون من خلف القضبان الحديدية والشِّباك المعدنية وكأنهم خلف قضبان السجن والذي وضعوه كي يتفادوا شر حجارة المستوطنين وقرفهم، فأهلنا في الخليل في بيوتهم والمستوطنون يسرحون ويمرحون في الشوارع والمتنـزهات وكأن البلد ملك لهم ومحرّمة على غيرهم.
أجاد المهندس وليد في الحديث عن الوضع السياسي الآني وعن تقسيم البلد وتشريد معظم أهل البلدة القديمة، ليبحثوا عن مكان يستطيعون التحرك والعيش بكرامة فيه، وكان مشروع إعمار الخليل لجذب أكبر عدد للعودة إلى البلدة القديمة.
ثم تحدثت المعمارية نهى دنديس عن الترميم وصعوبة تنفيذ المشاريع في البلدة وذلك بسبب التشريد والتكسير، وأحياناً منع العمال من الوصول وأحياناً منع المواد من الوصول ودائماً هنالك أسباب ووسائل يتبعها الجنود لإذلال الناس.
جولتنا في الخليل كانت برفقة السيد رافع المحتسب والمهندس جلال أبو الحلاوة.
شوارع كئيبة فارغة إلا من بعض المستوطنين والجنود، ومشينا وحدنا، وكلما نظرنا حولنا شعرنا بالخيبة والألم يعتصر عيوننا فتغور في حدقاتها، وجوه المعماريين/ ات غاضبة، حزينة، تسأل ربها عن هذه الحالة التي آلت إليها البلدة. كثبان من الخرسانة والبراميل، خراب وهمجية. تلوح في كل مكان... جنود بكامل عتادهم على كل شارع ومنعطف. ومشينا في هذا المكان الذي يقتلون فيه ويعذبون كل يوم أطفالا وشبانا... وصدورنا مثقلة بذلك الناتج بحجة مكافحة الإرهاب أو حماية اليهود وتثبيت الأمن ، يعيثون في الأرض فسادا وخرابا، شعرنا أننا تزودنا بثقافة معمارية متحدية ترمز إلينا وتحكي لنا وعنا، وهذا ما يحاول مركز إعمار الخليل أن يقوم به بدعم من مؤسسات أوروبية مختلفة.
بعد الغداء غادرنا إلى بيت لحم حيث كانت السيدة كريستيان ناصر مديرة مركز حفظ التراث الثقافي بانتظارنا، بدأنا من مركز السلام في الطابق السفلي حيث المجسّم الكبير عن مدينة بيت لحم وهو بحث لنيل درجة الماجستير... ووقفنا حوله نستمع إلى شرح السيدة الكريمة عن المراحل التاريخية الاجتماعية والدينية التي مرّت بها البلدة وعن التركيبة الحالية وعن تأثر الأحياء والمعيشة والبناء والهدم بالوضع الأمني، وعن الهجرة الكثيرة لخارج البلاد، وعن اكتظاظ بعض الأماكن حولها بعد 48 واقتلاع الفلسطينيين ليكونوا لاجئين هناك.
حدثتنا عن المركز ومشاريعه وأقسامه، والتدريبات والفعاليات الهامة التي يقوم بها.
ثم قمنا بجولة ليلية مع المعماريين الشباب الأصيلين والشرفاء طارق الكرد، ومحمود عيسى، ومحمد أبو حماد، ومؤيد زبون، ومهند فتيان، ومحمد عليان، والمعمارية أماني عزت.
دخلنا أحد البيوت لنرى الحوش وطريقة البناء في بيت لحم والنسيج المعماري.. ما يميز البيوت والأماكن.. وقمنا بجولة حول الجدار وكان الإحساس رهيبا، تجمدت الكلمات وارتبطت الألسن لهول القبح ،وشعرنا بالاختناق وكأن الجدار يجثم على صدورنا بثقل كتلته،وتساءلت إن كان ما أراه كابوسا !!
وفي الصباح زرنا منطقة المهد؛ الساحة والكنيسة، وحدثونا عن السياحة والسياح الذين يدخلون إلى بيت لحم، تسمح لهم السلطات الإسرائيلية بدخول الكنيسة ثم الخروج مباشرة والعودة إلى القدس دون زيارة البلدة التي كانت تعتاش أساسًا على السياحة والحرف والفن اليدوي... ثم حارة العناترة التي ساعد على ترميمها مركز حفظ التراث الثقافي... توجهنا قبل ساعات الظهر إلى رام الله عبر حاجز قلنديا... كم سيحتمل هذا القلب من هذه المشاهد، وكم يستطيع شعبنا أن يعيش هكذا؟ إلى متى هذا القمع والإذلال وكل ما يمكن أن يوحي به الاحتلال من عنف وقهر وظلم، وأمام شكل الحاجز امتزج الحنين بالحزن والأسف والكآبة.
دخلنا البلدة مباشرة إلى رواق مركز المعمار الشعبي والتقينا الدكتور نظمي الجمعي مدير شريك للمؤسسة.
وتحدث بثقة وتواضع عن ستّ عشرة سنة من التحديات والعمل في ظل ظروف احتلال قاهر، وحكى لنا عن عمل رواق ونجاح هذه المؤسسة بالتوثيق والترميم والتواصل مع الناس في مشاريعهم، وعن مسابقات الرسم في كل مناطق ال 67 ، وعن مشروع توثيق الأماكن الأثرية، تراكم سنوات من المعرفة ووعي المكان في سياق الزمان والتحولات التاريخية والاجتماعية التي مرت بها المنطقة يسردها لنا الدكتور نظمي، ثم وزعوا لنا بعض الهدايا الخاصة مثل أجندة 2008 مصممة بأناقة كما كل إصدارات رواق وكتاب عن البيانالي الأخير الذي انتهى قبل شهر تقريبا. قمنا بجولة قصيرة مع المعمارية ربى سليم المشرفة على بعض مشاريع الترميم في البلدة القديمة.
توجهنا الى مؤسسة عبد المحسن القطان لنلتقي الفنان التشكيلي المعروف والمبدع جواد ابراهيم، حيث تعرض لوحاته الجميلة.
ثم ذهبنا إلى احد مطاعم رام الله الشهيرة وقلوبنا يتوزّعها الحنين والغربة والشوق والفراق.