"مينا": "الأغنية؛ قاربٌ في بحر بشاعة الكوكب"

تختتم "مينا"؛ الفرقة الموسيقيّة العالميّة جولة عروضها في فلسطين، والتي ترافق إطلاق ألبومها الأوّل، يوم السبت 16.4.2016 عند السّاعة الثامنة مساءً في قاعة كريغر في حيفا، باستضافة جمعيّة الثقافة العربيّة. يأتي هذا العرض، الذي تستضيف فيه "مينا"  الفنان القدير محمد بكري والموسيقيّ رامي نخلة، بعد أن مرّت بسبع محطاتٍ بدأت من حيفا، مرورًا بيافا والناصرة وشفاعمرو ورام الله ومجدل شمس.
"مينا"، الفرقة المكوّنة من بيدرو بيريرا، ريكاردو كويليو، روي فيريرا، صوفيا برتغال، وتريز سليمان، تقدّم أغانٍ منتقاة من الإرث الموسيقيّ العالميّ، بعد عملية بحث وتنقيب طويلين، سيما في تراث الأماكن المهمّشة، في مادةً جديدةً من حيث التوزيع والتصرّف في اللحن والصوت ودمج اللغتين العربيّة والبرتغاليّة.  هوإبحار لأغان ترسو في ميناء الفرقة من مدن وأرياف مختلفة من جغرافيا العالم، فيجيء معنى "مينا": المرسى. هو، أيضًا، استخراج للأغنية الخام الأصلانيّة ومعالجتها، هنا يجيء معنى كلمة "مينا" في البرتغاليّة: المنجم.

الجغرافيا المهمّشة

إن التبدّل الذي تشهده الشعوب، هو ما يجعل التوقيت الذي يخرج به مشروع "مينا" ذا أهميّة.  فالصور التي تصل العالم عن نفسه في السنوات الأخيرة، تكاد تكون على تشوّه غير محتمل. أمّا تلك التي تأتينا من الوطن العربيّ، فكأنّها تبني مدنًا جديدة لا نعرفها، ملطّخة ومترهّلة. أما الأغنية، فقد تكون بالنسبة لـ"مينا"، مساحةً كفيلة بإعادة المدن الأصليّة وصورها النقيّة المغيّبة، التي لم نعد نجدها، وسط عصرنا السريع، في مرمى العين أو متناول اليد. "أعتقد أنّ جمال الأغنية التراثية يعود لكونها جاءت من الشعب، لا من نمط حياة فردٍ فيها"، تقول المغنيّة صوفيا برتغال. وتضيف: "جاءت الأغنية التراثية البرتغالية في الوقت الذي عاش فيه شعب البرتغال زمن نظام دكتاتوريّ، زمن كان الفقر سببًا لجهل الناس عما يدور حولهم. لذلك، لم تكن أغانيهم متكلّفة، بل بسيطة وتتحدث عن الحياة والحب والعلاقات والزراعة. لفترة زمنيّة طويلة، لم تكن أغاني الريف ذات شهرة، كأنّها طُمست من قبل "مثقفي" المدينة بادّعاء أنّها بدائيّة وغير متطوّرة". صوفيا، ترى في جدّتها التي عملت في الحقل وأكلت ما غرست ولم تخرج من بلدتها، إنسانًا متنوّرًا بالفطرة". إنّ هذه الصور النقيّة لم تجدها "مينا" في الماضي فحسب، بل ساهمت الأغنية في أن يؤمن أفرادها بأنّ الجمال الإنسانيّ موجود في اللحظة الراهنة وسط الخراب الذي يعيشه هذا الكوكب. "الموسيقى هي ردّ الفعل الطبيعيّ على الدمار البشريّ والمكانيّ. إنّها المساحة ربما الوحيدة التي لا يجوز أن يصار إلى تلويثها والسيطرة عليها"، يقول بيدرو بيريرا. الأغنية، بالنسبة لتريز سليمان، تبدو في ذات القوّة: "هي الطريق الأسلم والأوضح للمس هذا الجمال. يبدو أنّ السعادة التي نبحث عنها وسط أشكال التعاسة البشرية التي تحيطنا موجودة، لكنّا نبحث في الأماكن الخاطئة ربما"، تقول. "الخلل في تواصل البشر، مع أنفسهم وماضيهم وبيئتهم، هو ما يسبب هذه التعاسة. ومشروع "مينا" يشدّ أواصل هذا التواصل، نتواصل مع بعضنا كموسيقيّن بغضّ النظر عن اللغة والخلفيات، نتواصل مع أجدادنا الذين كتبوا هذه الأغاني، مع حيواتهم، ومع حاضرنا أيضًا، وما يوفّره من أدواتٍ حديثة للإنتاج الفنيّ. هذا التواصل الحسيّ والبشريّ والمعرفيّ هو الحقّ وليس "التواصل الاجتماعيّ" بمفهومه الرقميّ.



العودة إلى التراث هي الأصنع في التحديث

لعلّ سؤالاً شديد الحذر والحساسية يلفُّ مسألة إعادة توزيعنا وغنائنا لإرثنا الموسيقي، ولعلّ الإجابة عليه تبدو جاهزة وغير قابلة للصرف: "نحن نحافظ على النواة والهوية الأصلية للأغنية ولكن نتصرّف بها داخل حدود معينة". ولكن، لا أحد بإمكانه تعريف هذه الحدود. وما دامت عديمة الوضوح، ما المانع في تحديث هذه الأغاني "التراثية" من دون هوس الحفاظ على صيغتها الموسيقية، والأهم النصيّة، ومن دون خوف من خدش أصالتها؟ روي فيريرا؛ عازف البيانو والباص، يؤمن بأنّ التحديث في الموسيقى يكمن في الرجوع إلى التراث. "ما يصلنا اليوم من المشهد الموسيقيّ العالميّ يكرّر نفسه، هناك قوالب وأنماط موسيقيّة، حتى تلك التي لا تنحاز لجانر معيّن، تعيد نفسها. قد تكتشف جوانب جديدة بالذات في الرجوع إلى حقبة زمنيّة ولّت". يعتقد روي أنّ وضع المادة التراثيّة بأيدي موسيقيين حديثين بمثابة تجديد جدير ومثير". تعتقد فرقة مينا أنّ مجرد تقديم هذه الأغاني في عصر مختلف، من قبل أشخاص مختلفين على خشبة مسرح، فإنّ ذلك كفيل بنزعها عن سياقها الأول وطبيعتها الأولى.

أمّا تريز سليمان، وفي سؤال حول مسألة غناء التراث، بعد أن قدّمت أغنيتها الخاصة، كتبتها وغنّتها، فتقول: "حين غناء أغنية ليست لك، تتفتّح مسالك ونوافذ جديدة لمصاحبتها وغنائها. تتطوّر أدوات مثيرة لا تظهر عند غناء الأغنية الخاصّة. منها، عنصر الاكتشاف! وبشكل أساس اكتشاف البشر. هذا المشروع جعلني أشعر بامتنان شديد للبشر الذين كانوا حاضرين في بيئتي الأولى؛ جدتي، أهل الحليصة وعكا. يظهر أمامك كم أنّ أقسى البقع في الجغرافيا العربيّة؛ كهذه الأماكن التي نشأت فيها وبقع أخرى عربية تنزف، كم أنّها أقدر وأصنع في تقديم الجمال بأقوى أشكاله، من وسط هذا الخراب نتلقّى القصص الجميلة ودروسًا في القوّة وصناعة الجمال".



دبّ الروح في الأغنية

تختار مينا في ألبومها، الذي أنتجته بدعم من مؤسسة عبد المحسن القطان والمورد الثقافيّ، تسع أغانٍ من فلسطين والبرتغال وإسبانيا والعراق وسوريا ومصر والمغرب وتونس والبرازيل. ولا تكتفي بتقديم هذه الأغاني من خلال ألبوم موسيقيّ يعيد توزيعها ويتصرّف في نصّها ولحنها فحسب، بل تسعى إلى المساهمة في نقل المعرفة المتعلّقة بهذا التراث عن طريق كتيّب يضع قصص الأغاني باللغة العربيّة والبرتغاليّة والإنجليزيّة".

"إن أردت دبّ الروح في أغنية، فتّش عن ملامحك فيها"، هذه المقولة التي شكّلت مقودًا للفنانة تريز سليمان، وساقتها نحو اختيار هذه الأغاني التراثيّة دون غيرها من مئات الأغاني التي خلّفها أجدادنا. "إنّ اللقاء الأوّل مع الأغنية قد يتّسم باغترابٍ ما، إلا أن سبر غورها واكتشاف مساحات الالتقاء الشخصيّة فيها تجعل منها قريبةً كأنّها بنت هذه اللحظة. تصل حينها إلى قناعة بأنّك تستطيع أن تجد علاقة مع كلّ شيء حولك"، تقول تريز. "اختلفت الأبواب التي جئتها من أغنية إلى أغنية؛ هناك أغان استفزّتني موسيقيًا، أخرى صوريًا. وهناك أغان استفزّتني لهجتها". كانت مسألة اللهجات العربيّة، بتنوّعها في المشروع، كفيلةً بأن تعيد لها كمغنيّة اللغة إلى مستوى الصوت، إلى بدائيّتها قبل أن تتّخذ معنى. ومهما كان نوع الجاذبيّة التي طرحتها الأغنية، فجميع الأغاني تشاركن في المفتاح "الشخصي". تقول تريز: "تصير تقنيّات الغناء أمرًا ثانويًّا أمام التجربة الشخصيّة التي أمرّ بها مع الأغنية. بعد خوض التجربة والحصول على عصارتها ومعرفة مكامنها، أتمكّن من اللعب مع الأغنية والتمتّع بها على الخشبة". وتضيف: "قد تكون تجربتي في الغناء متواضعة، لكنّي على الأقل أسعى لمعرفة مساحتي وحدودي، أين أجازف وأين لا. إن هذه المساحات ليست مساحات تقنيّة، بل شخصيّة حتّى أبعد حدّ. فما يحدّد هوية الفنان الموسيقيّة هي شخصه، ما يحبّ وما يكره وما يجرّب ومن يعرف".



الأغاني، في عجنة واحدة!

تقول صوفيّا إن أمر دمج الأغنية العربية بالبرتغالية كان عجيبًا؛ فحتى حين كانت "مينا" تعتقد أن ليس هناك شيء مشترك في موضوعاتها، كان الموسيقييون، حين يحفرون في معناها، يجدون صورًا أو استعارات مشتركة. "لم تكن قضيّة دمج الأغاني أمرًا ممنهجًا أو مدروسًا! المسألة ليست مسألة عقلانيّة. كانت الأغاني تندمج بطريقة طبيعيّة خلال العمل"، يقول روي. فعلى سبيل المثال، قابلت أغنية "ع المايا" (سوريا) التي تجلبها "مينا" من أغاني العمل في دير الزور، حيث ردّدها العمّال والمزارعون أيّام الحصاد، أغنية "Penteei o Meu Cabelo" (البرتغال)، والتي ردّدنها العشّابات في منطقة ألين تيجو. كما تأتي أغنية "Eu Nao Sou Daqui" (البرازيل)، والتي تعود إلى زمن العبوديّة الأفارقة في شواطئ البرازيل بعد أن هجّرتهم دول أوروبيّة، لتقابل أغنية "أشتاتا" (المغرب)، الأهزوجة الشعبيّة التي تحوّلت فيما بعد إلى أنشودة سياسيّة ضدّ الفقر والجوع.

ثمّة في التعرّف إلى الأغنية العربيّة من قبل الفريق البرتغاليّ ما أثار إلهامه. تعرّف روي، كغيره، على إيقاعات شرقيّة كانت بالنسبة له فيها ألفة معيّنة، فالإيقاع مهما كانت هويته موجود في الصوت كقيمة بدائيّة، لكنّ الإيقاع الشرقيّ للأغنية التراثيّة أرجعه إلى الأصول والمباني الأولى. ضابط الإيقاع في "مينا"، ريكاردو كويليو، صمّم الدرامز بطريقة خاصّة، تناسب المادة التي تقدّمها مينا، دامجًا آلاتٍ إيقاعيّة مختلفة، تراثيّة وحديثة. "إن الخلفيّة الموسيقيّة المتنوّعة التي اكتسبتها؛ في الإيقاع الكلاسيكيّ والحديث، فتحت أمامي بوابةً وسيعة للتعامل مع الإيقاع، فأنا أستخدم آلة البانديرو من البرازيل، والتمبورين من مصر وغيرها من الآلات الإيقاعيّة. ربما لا أعزف عليها بالشكل التقليديّ كما تعامل معها من اخترعها! لكنّي أتعامل معها كمصدر صوت أوظّفه بما أراه مناسبًا"، يقول ريكاردو. "إن المادة التراثيّة كشفتني على إيقاعات بسيطة وشعبيّة، لكن بالذات في هذه الإيقاعات تنفتح المساحات للعمل الإيقاعيّ المركّب والمتشعّب. هذه المساحات هي التي أتعلّم وأكتسب منها". إن الإيقاع بالنسبة لـ"مينا" ليس ابن جغرافيا محدّدة، إنه ابن الصوت كقيمة أوليّة: "حتّى في العمل مع الأغنية العربيّة، نتعامل مع الصوت كعنصر أساس، كلون في رسمة. التوزيع والتركيبة الموسيقيّة والتدخل الشخصيّ فيها هو ما يجعلها تبدو مختلفة من الخارج. أمّا مكوّناتها فواحدة"، يقول بيدرو. تتجلّى مسألة التعامل مع الصّوت في العمل الذي يؤديه مهندس الصوت والموسيقيّ ميغائيل جيرا. بالإضافة إلى كونه عازف باص في عدد من أغاني الألبوم، فهو الذي يقف من وراء إنتاج الصوت الحيّ من الخشبة. "لم تكن مسألة تسجيل الألبوم وهندسة الصّوت للعروض الحيّة أمرًا محسومًا، بل مفتوحًا على التجريب والمحاورة إلى أن وصل على شاكلته النهائيّة"، يقول ميغائيل، ويضيف: "الصّوت مسألة بالغة الحساسيّة، أحاول أن أخلق الصّوت الذي أرغب في سماعه، أن أصدره بما يتلاءم مع الظرف المكانيّ والموسيقيين والعناصر الفيزيائيّة الأخرى".
تختلف مسؤوليّات ومساهمات كلّ فرد في "مينا"، تختلف خلفياتهم الموسيقيّة، إلا أنهم، وخلال إجراء هذه المقابلات، تشاركوا في توجّهاتهم، نحو القيمة العليا التي تمنحها إياهم الموسيقى، نحو الحبّ المطلق الذي يحفظونه لها.

قدّمت "مينا" جولة عروضها بإشراف مسرحيّ من الفنان عامر حيحل، تصميم إضاءة: معاذ الجعبة، ميغائيل جيرا: صوت، تنفيذ ديكور: ميساء عزايزة، تنسيق إعلاميّ: أسماء عزايزة، تصميم: سنا جمّاليّة. يأتي العرض الأخير في حيفا بدعم من: فتوش، عالم، سانت إتيان، وسمايلي دينت. بالإمكان الاطلاع على تفاصيل أوفى عن العروض ومشاهدة فيديوهات للأغاني التي ستقدّمها "مينا" في عروضها عن طريق صفحتها في فيسبوك:  "مينا".