ما بحرّك فنّك غير شعبك! | إياد برغوثي

يؤسفني إخباركم، أيّها القرّاء الأعزاء، أنّ مسرح الميدان في حيفا سيغلق أبوابه في الأشهر القريبة القادمة. فسيناريو خطة الهجمة السلطوية على "الميدان"، كما شرحها بالتفصيل أحد قياديي هذه الهجمة مهدِّدًا مدير المسرح الزميل عدنان طرابشة: "أولاً سنجمّد ميزانية الدعم من "البلدية"، ثمّ سنخرج الميزانية من "سلة الثقافة"، بعدها سنجمّد ميزانية الدعم من الوزارة، ثمّ سنغلق المسرح، بعد ذلك سنقتلك". وبما أنّ أغلب مراحل الخطة قد نُفّذت بالفعل، فإنّ مسألة عدم إغلاق المسرح وإيجاد آفاق لإبقائه على قيد المنصة أصبحت بالنسبة لعدنان، مسألة حياة أو موت!

قد تكون مشكلة "الثقافة" عمومًا، أنّها لا تعتبر مسألة حياة أو موت، يمكن الاستمرار بالحياة بدونها. فعلاً، ما الحاجة للوعي والهويّة واللّغة والجماليات والمعنى والموسيقى والتعبير الإبداعيّ عن تجارب البشر وأفكارهم ومعرفة الحضارات والتراث الوطنيّ؟! هناك، دائمًا، أولويات أخرى. الثقافة هي التي تولّد المعنى للإنسان وتجربته وتصنع الجماعة. شطرٌ أساسيٌ من الإجابة الطويلة حول سوء وضعنا الحضاريّ مكمنه في تردّي مكانة الثّقافة. بدون ثقافة، لائقة، سنموت معنويًا.

المشكلة الأساسيّة للحكومات الإسرائيليّة كانت دومًا مع الهويّة الفلسطينيّة والمضمون الوطنيّ للإنتاجات الثقافيّة، وتحديدًا مع كونها تموّل إنتاجات يعرّفها مبدعوها فلسطينيّة وتطرح مواقف وقضايا وطنيّة. كما استخدمت السلطة فتات ميزانيات وزارة الثقافة ودائرتها كأداة احتواء وضبط للفنانين والكتّاب أنتجت، في الغالبية الساحقة للحالات، إنتاجًا ثقافيًا هزيلا غير ذي قيمة فنيّة أو أدبيّة، أو كأداة للعلاقات العامّة. وعلى أي حال، إن كان هناك منجزات ثقافيّة فلسطينيّة قيّمة، في الشعر والأدب والموسيقى والسينما والفنون التشكيليّة، هنا في الداخل فهي إما نمت بشكل حرّ دون دعم السلطة أو أنّها نفرت منها بعد الدفعة الأولى وحلّقت. في هذه النقطة، تلتقي الهويّة بالمادة والحرية. يلتقي المعنى بالشكل والمضمون.

هذه المسألة، تكوّن إحدى أكثر التناقضات كثافة في التوتر بين هويتنا الوطنيّة والمواطنة التي نحملها. لقد طرحنا منذ عقدين رؤية الاستقلالية الثقافيّة، هذا حق جماعيّ وهذا هو أفق المسير. لكن المسألة ليست نظرية ولا تنتظر تشريعات لن تأتي تقريبًا. الخطوة الأولى هي أن نقرّر أن نتحمل نحن كشعب ماديًا مسؤولية حركتنا الثقافيّة كي نضمن استقلاليتها عن أيّ ضغوط، وكي تعبّر عن قضايانا وتجرّبتنا، وتكون إحدى مسارات التنمية لمجتمعنا، خصوصًا في مجال الصناعات الثقافيّة والإبداعيّة. لنبدأ اليوم مع الميدان، بأن نسعى لمنع إغلاقه عبر دعمه بشتى الطرق، على الأقل ليبقى عدنان طرابشة حيًا!

 

*المقال نُشر في صحيفة "فصل المقال"، عدد الجمعة 19 حزيران 2015.

(الصورة من مسرحية "الزمن الموازي"، من إخراج بشار مرقص وإنتاج مسرح الميدان، حيفا).