المعماريون العرب يبحثون عن أجوبة عمّان


جرت في عمان أيام دراسية نظمتها «جمعية الثقافة العربية» حول موضوعة «العمارة والهوية» ٭ هذه الأيام جمعت ثلاثة معماريين هامين: راسم بدران، عمار خماش وجعفر طوقان، الذين طرحوا تصوراتهم حول عملهم وحول مستقبل العمارة العربية ٭ أهم الاستنتاجات: تعالوا نُعيد العمارة إلى الإنسان...



عمّان



الإحساس الطاغي كان أنّ الأردن، دولةً وأناسًا، لم يستطيعوا التغلب على الصحراء، أو ربما على فراغ الصحراء. فالطريق إلى عمان مزدحمة بفراغات رملية ومهملة بين البيوت، كأنّ البيوت ليست إلا مشاريع مدينية لم تكتمل، ولم تتبلور بما فيه الكفاية كي تستحق لقب «عمران»، بل اكتفت بمقومات أولية من لقب «العمارة.



حتى عمان، مدينة الأردن الكبيرة والعاصمة، لا تكاد ترسم معالم واضحة من العمارة أو المدينية، وهي في غالبيتها، إرتجالات على إرتجالات، لم تصطف بتدبير مُدبر في مشروع متكامل أو حتى متوسط الكمال، في السعي نحو بناء مدينة عربية. ولكن في ذات الوقت، وبكثير من المفارقة والعجب، تتألف هذه الصفات لتصنع طابعًا عربيًا خاصًا، يعتاش على الفوضى المرتبة ويُجيّر الإهمال والفقر وعدم التطوّر، ربما هو «جوهر» الطابع العربي، الذي لم يرقَ بعدُ لعمران حديث عصري يمكن أن يشكل مركزًا ومدينة بالمعنى العميق للكلمة.



وإذا تبادر للأذهان أنّ هذا الكلام يأتي من باب الشوق والاشتياق إلى مدن على طراز لندن وباريس ودبي تكون مزروعة في قلب البادية العربية، فلنسارع للقول، إذًا، إنّ المقصد لم يكن كذلك؛ فلا مجال لبناء مدن أوروبية أو أمريكية في شرقنا المُمتد على طول شرقه، ولا مجال للثبات في عصرنا على عناصر البادية العربية القديمة، فما الحل إذًا؟.



البداوة



هذا السؤال وأسئلة أخرى كانت في صلب الأيام الدراسية الثلاثة التي نظمتها «جمعية الثقافة العربية» حول «العمارة والهوية».



وشارك في هذه الأيام الدراسية أكثر من 60 معماريًا ومعمارية من عرب الداخل، حيث التقوا ثلاثة معماريين هامين في العالم العربي والعالم، اليوم: راسم بدران، جعفر طوقان وعمار خمّاش، كما خرجوا في جولة باتجاه الحدود العراقية، زاروا فيها اثنين من القصور الصحراوية الشهيرة في تلك المواقع وهما قصر الحرّانة وقصر عمرة، والأول على شاكلة خان كان يستخدمه التجار للاستراحة، والثاني أشبه ما يكون بقصر دعارة ولهو كان الخلفاء الأمويون يستطيبون فيه الحمامات الساخنة والسهر والشراب واللهو والغزل.



 



في البدء كانت البداوة



يكتب ابن خلدون في مقدمته الشهيرة فيقول: «البدو أصلٌ للمدن والحضر وسابق عليهما، لأنّ أول مطالب الإنسان الضروريّ، ولا ينتهي إلى الكمال والترف إلا إذا كان الضروري حاصلاً. فخشونة البداوة قبل رقّة الحضارة». إذًا، فنحن بدو، ولكننا تخلينا عن مظاهر البداوة، إلا أننا لم نستطع حتى الآن إيجاد المدخل الصحيح للحداثة وما بعدها، فظللنا عالقين، كعرب وشرقيين، في المساحة الغامضة المتوترة بين البادية والحاضرة، فأغلفتنا حضارية (ملبسنا ومأكلنا وهواتفنا وحواسيبنا وسياراتنا) ولكن جوهرنا بدوي يرفض التغير (اجتماعيًا ومسلكيًا وفكريًا)، إلا في نادر الحالات.



في هذه المساحة الخشنة الوعرة راوحت الأيام الدراسية، وانحصرت بطبيعة الحال في حيّز العمارة والبناء والتصميم المعماري، مواضيع هذه الأيام الدراسية. المعماري اللامع والمعروف والمؤثر، راسم بدران، واعٍ لدوره الكبير في المراوحة في هذه المساحة العالقة والمؤجلة في تاريخنا، وهو يرفض أن يؤسّس لعمله وفكره وفق التقسيمات الغربية المتعلقة بتعريف الحداثة وما بعدها، كأطر زمانية وفكرية: «أنا أنتج عمارة اجتماعية»، قال في لقاء خاص معه أجرته «فصل المقال»، «أنا أصبو لإعادة صياغة البناء وفق مقومات أساسية للعيش.



فالعمارة الغربية هي عمارة صناعية شمولية، وهي ناجزة وجاهزة وغير قابلة للاجتهاد. تسألني عن القوانين؟.. لا توجد قوانين ثابتة. ولكن يجب علينا أن نتجنب التوجه الغربي للعمارة اليوم. فالمبنى يُبنى اليوم في الغرب ليكون عقارًا، مُعدًا للشراء والبيع والاتجار، وهذا بالضرورة يهدم علاقة الفرد مع المكان، ويؤدي إلى فقدان ثوابت ثقافية وثوابت مكانية. الإنسان أصبح «شيئًا» بسبب مادية الغرب.



العمارة الحديثة اليوم هي عمارة دقيقة، لا مجال فيها للحركة، وهي وظيفية جدًا. لقد فُقدت الحواس فيها وفي بنائها، من باب «مَكننة الحياة». وما الحل؟.. الحل في تطوير خطاب معماري مستمر وغير مُنتهٍ للسعي نحو المعرفة. يجب البحث عن طرق لتجدد المعرفة وما هو غير معروف.



محاضرات



بدران يُعطي أهمية ووزنًا كبيريْن في عملية البحث هذه للحدْس والفطرة، اللذيْن يُشكلان بالنسبة له مدماكًا رئيسًا في عمله: «أنظر إلى الفقراء في الأحياء الشعبية المكتظة. فللفقير القدرة على الاكتشاف أكثر منا. في الأحياء الشعبية، بتركيباتها ونظامها الداخلي، كمٌ هائلٌ من الدروس والمعرفة.



في الأماكن الحارة من العالم مثلا تتجلى عبقرية في منح الحلول العمرانية التي تتعلق بالحرارة والشمس. هذه الحلول «الحارة» يمكن أن تولّد في المناخات الحارة مدنًا تتكامل مع هذا المناخ وهذه الشروط، ولكننا للأسف نستورد النظم الغربية التي تقضي على مثل هذه الإمكانيات.



بدران يرى في منظومة مدينة دبي الحالية (أبراج زجاجية وخليط هجين ومستهجن من إبراز العضلات النقدية والغربية) خيانة من الغرب تجاه الشرق، تمامًا مثلما يحاولون أن يفعلوا في الصين اليوم. فالعالم الغربي يكاد لا ينجب اليوم، وهو في تناقص، بينما الزيادة السكانية في العالم تحدث في الأخص في القسم الشرقي منه، في القسم الحار.



هل يمكن أن تؤدي الزيادة السكانية في العالم إلى إلغاء دور المعماري المبدع؟



بدران: "يمكن في ظل هذه الظروف أن يستمر المعماري في البحث عن طريقة أو توليفة يحافظ من خلالها على إنسانية المكان. أنظر، كلما ذهبت إلى دبي أرجع مريضًا ومكتئبًا. فعبثية العمران تنتج عبثًا اجتماعيًا. نموذج دبي هو تجسيد حي للمنظومة الغربية السائدة اليوم: الانتصار المادي في مقابل الانهيار الإنساني.



بدران



بتفنن على حسابي



سنعود إلى بدران بعد قليل، ولكن التقاطعات بينه وبين المعماري عمّار خماش كثيرة، إلا أنّ أهمها هو السعي المشترك للاثنين إلى ترسيم عمارة تندمج في المكان والبيئة وتخدمهما. فخمّاش هو رسام تشكيلي وهو مصمم معماري أيضًا، مسكون بهاجس البحث والتنقيب عن أفضل الطرق «للاعتذار للمكان عن تدخل العمارة الإنسانية فيه»، والصياغة لي وهي من فهمي الخاص، وليست اقتباسًا مباشرًا منه.



كانت الجلسة مع خمّاش في مركز البيئة الأردني في عمان، الذي صممه هو: «أردتُ أن أبني عمارة لا تخدش البيئة العَمانية المحيطة. فالمنطقة من حولنا مكتظة والأبنية متجاورة في ملتقى أربع تلال، ومن هنا كان حرصي على بناء عمارة تندمج ضمن المشهد المعماري الموجود». وقد لاقى توجهه الفني والحسّاس للعَمارة حماسًا شديدًا من المعماريين المُشاركين في الأيام الدراسية، وجزمت غالبيتهم بأنّ خمّاش أثر فيهم بأكبر قدر، وأنا لا ألومهم على ذلك. فهو متحدث ماهر، مصطلحاته واضحة، وتوجهه حاسم وحازم، رغم اعتماده الصيغة التشكيكية والتساؤلية في عمله وفكره. وقد أعطى خمّاش مثالا جيدًا على حرصه الكبير في تثبيت أسلوب عمارة «حساس» إذا صحّ التعبير، حيث طُلب منه مؤخرًا وضع تصميم لإعادة ترميم وبناء قصر هشام الفلسطيني، قرب أريحا، وبعد إعمال فكره وتصوّره قرر بناء القصر بجدران تعتمد على ورق الجرائد الخفيف والمُريح، فأساسات المبنى لا تحتمل الجدران الثقيلة.



 



مداخلات



في هذا الاختيار حساسية كبيرة للمعطيات الفيزيقية للمكان وفي نفس الوقت يحمل أبعادًا فلسفية عميقة تصبّ في صلب التساؤلات المطروحة حاليًا حول نوع العمارة التي يريدها العرب لأنفسهم.



في المقابل برز المعماري جعفر طوقان (ابن الشاعر الفلسطيني المعروف إبراهيم طوقان)، وهو يُعدّ من أبرز المعماريين وأهمهم في العالم العربي، ويملك شركة معمارية كبيرة يعمل فيها أكثر من 40 معماريًا، وهو يجسّد في توجهه وعمله الدمج بين التجاري والعصري والآني، وبين محاولة ترويض العمارة من أجل بناء فضاءات معمارية جديدة، توظف العمليّ والعصري في خدمة البيئة المحيطة. في محاضرته الأولى استعرض طوقان البنية المعمارية والتاريخية والسياسية لمدينة القدس والمراحل التي مرت بها المدينة قبل النكبة وبعدها، ومن ثم بعد احتلال المدينة في حزيران 1967 وتوسع المدينة إلى خارج الأسوار، وبرزت واضحة النزعة المعمارية الإسرائيلية التي جاءت لتغيير طابع المدينة المعماري ومحاولة إضفاء النزعات الغربية عليها.



في محاضرته الثانية تركّز طوقان في أعماله وإنجازاته على مرّ السنين، من حيث تطور أسلوبه المعماري في عمان وخارجها، إلا أنّ الانطباع الراسخ الذي ظلّ في أذهان الجميع، أنه يقوم بنهج معماري توفيقي، ليس ثوريًا وليس تغييريًا بقدر ما هو تسوية غير مؤذية في أغلب جوانبها، اللهم إلا مشروع البرج الزجاجي الذي عمل عليه والذي من المفروض أن يُبنى في دبي، وجميل أنّ المشروع يلاقي الآن صعوبات في تنفيذه!



في مقابل توجه طوقان العملي والتجاري في معظمه، يقول خمّاش إنه لا يقبل بأن يجرّب في تصاميمه المعمارية تجارب غير عملية أو فيها نوع من المغامرة ومحاولة لاجتذاب البريق المفتعل، وبكلماته «أنا لما برسم بالزيت على القماش، بتفنن على حسابي». أي أنه يترك الفانتازيا للرسم وينحو نحو التواضع والمهنية المفيدة في تصاميمه المعمارية.



لعنة البترول



تمامًا مثل بدران الذي يدعو بحماس كي نتعلم من ذكاء الإنسان الفطري في تكيّفه مع الأمكنة وبنائها: «في البناء الشامي مثلا، هناك بيت وساحة محيطة، وهناك ساحة عامة بين البيوت كانت تتحول إلى بيت ثانٍ لجميع أهل الحارة. كان أهلنا ينتجون فراغات تستهويك أن تجلس فيها. أنا أذكر أنّ حسن فتحي (معماري مصري، ويُعدّ من مؤسسي المعمارية العربية اليوم) روى لي أنه عاد بعد لقاء مع معماري معروف إلى بيته وغيّر من تقسيمة بيته الداخلية عملاً بنصيحة صديقه الذي طلب منه أن يمنح أولاده وبناته فرصة أن يعيشوا في داخل فراغات. هي في النهاية عملية تحايل على التقسيم الصلب بين الداخل والخارج، كي يُعيد الإنسان صوغ حواسه مرة أخرى.



وماذا جرى لنا؟



بدران: "البيئة لم تتغير، ونحن، كما كنا، عاطفيون، نحبّ التواصل، ولكننا نفتقد للنقطة الحساسة بين الثابت والمتحول. فالثابت هو اللغة والأدوات التعبيرية والتعريف، والمتغير هو التعبير نفسه؛ بمعنى: هو الشيء النظري اللين، المرهف، الذي ينعكس من خلال المادة الصلبة. فالتقاء المال مع الأخلاق هو الذي يُنتج حضارة كبيرة وعظيمة، والغرب اكتفى بالمال فقط."



- ونحن؟.. ينقصنا المال؟



بدران: "لسنا بحاجة للمال. المجتمع العربي لديه خيرات كبيرة جدًا، وخصوصًا الخيرات الزراعية. وللأسف بترولنا تحوّل إلى لعنة. هذه مصيبة، أن يتحول أبناء المشرق العربي إلى بتروليين. هذه مصيبة!"



إذًا، أين نحن في النهاية؟



بدران: "نحن في الوسط، بين الشرق المتأزم وبين الغرب المتقدم. الزمان والمكان عندنا غير متوافقيْن، ولذلك لا توجد لدينا حضارة."



بدران ليس متفائلاً جدًا من الوضع الذي نحياه، كأمة عربية عالقة بين الأزمة الشرقية وبين تقدم الغرب، كما قال: "يمكن أننا آخر جيل في العمارة العربية. فكل شيء أصبح جاهزًا ومستوردًا"...



 



عمان المستقبل



في الندوة التي عقدتها أمانة عمان، بدعوة واستقبال من أمين أمانة عمان، السيّد عمر المعاني، والمعمارية ميسا البطاينة (زوجته)، جرى عرض للمخطط الشؤوني الشامل لأمانة عمان في العشرين سنة المقبلة، والذي يتم وضعه وصوغه النهائي بمعاونة شركة كندية.



المشروع المستقبلي لعمان يستند إلى الوعي الأساسي بعدة أمور، أهمها: أنّ الأمانة ستتوسع لتشمل أكثر من ثلاثة ملايين ساكن في السنوات القادمة، وأنّ الوضع لا يمكن أن يستمر بما هو عليه. فعمان تشمل اليوم 40% من سكان المملكة الأردنية، وقد ارتفع عدد سكانها من 46 ألفًا في العام 1946 ليصل وفق إحصائية العام 2005 إلى حوالي مليون وسبعمئة ألف نسمة..



ويستند المشروع المستقبلي إلى تقسيم أمانة عمان إلى 21 منطقة إدارية، لكل منطقة نوع من الاستقلالية النظامية والإدارية، مع ترسيم ميزانية مشتركة للأمانة لجميع الإدارات. وتستند أفق التوسّع المعماري في عمان باتجاه الجنوب، نحو منطقة سحاب بالأساس. كما يضع القائمون على المشروع نصب أعينهم تحويل المدينة إلى «مدينة خضراء»، يكون فيها الإنسان أهم شيء «وأهم ما نملك»، كما أراد الملك حسين المرحوم في رؤاه المستقبلية للمملكة، إلى جانب تحويلها إلى مدينة ودية للشباب والشبيبة، حيث اتضح أنّ 50% من سكان عمان هم دون الـ 18 عامًا!.